أكتب عن أبي 2 – 9 – 2009

أنا يارب دوماً أحب الحديث عنك ، ذكر تحننك و رحمتك و محبتك يعزيني كثيراً و يشعرني أنني في السماء ... الحديث عنك تصحبه لذة خاصة تغذي الروح و تجعله أقدر أن يحمل الجسد فيشعر المرء أنه قادر على الطيران ، حديث سماوي عن أعظم ساكني السموات .
الآن يارب و قد قارب اليوم الأربعين بعد رحيل أبي ، و مع إيماني أن أبي في سمائك ، أستسمحك و أستأذنك أن أكتب هذه المرة عن أبي الأرضي ، يا أبي السماوي .
قد سافر أبي إلى السماء فبعد انتقال أبي لا أستطيع أن ادرك معنى الموت ، بل دوما أقول سافر أبي ، كيف يموت عبيد الله ؟ ألسنا نصلي قائلين ، ليس هو موت لعبيدك بل هو انتقال ؟
قد سافر أبي و صديقي و أخي الأكبر و تركني إلى السماء ، بالتأكيد هو يراني الأن و سعيد أني أكتب عنه ، و أنا سعيد لسعادته في السماء ، أليست المحبة الحقيقية تفرح لسعادة المحبوب .
قد سافر أبي و يوم علمت بذلك مر أمامي شريط طويل من المواقف التي ساندني فيها أبي و ساعدني و أحبني و علمني و رباني و غرس فيّ الكثير من الأشياء ، حكيت أحد هذه المواقف التي حدثت و أنا طفل لأحد الحكماء فقال لي : لقد كان أبوك مدرسة في التربية و علم النفس .
ظننت أنني قد استطيع ذكر هذه المواقف هنا أو حتى بعضها ، و لكنها سوف تستغرق الكثير لأذكر كل تفصيلة ، إنما هي محفورة على جدران قلبي تذكرني كيف شابه أبي الأرضي أبي السماوي في محبته و حنوه .
هنيئاً لك يا أبي في فردوس النعيم و ها أنذا اتطلع إلى اليوم الذي نلتقي فيه مجددا أمام عرش النعمة .

دوار البحر

عندما خلق الله الإنسان ... لم يكن كباقي الخليقة ، و ربما لذلك جعله آخرها .. فمنذ خلق الله الإنسان وهبه نعمة التفكير ، فحينما بدأ آدم حياته على الأرض بدأ يفكر فيما سوف يسمي باقي الكائنات .
و من أحد أوجه التقدم و أحد طرق قياس الحضارات و مدى تأثيرها في حياة البشر هي وسائل المواصلات.

بدأ الإنسان يركب الدابة بدلا من أن يسير على قدميه مسافات طويلة ، ثم ظهر إختراع العجلات ثم السفن ثم مؤخرا الماكينات بكل أنواعها .
و السفن عندما بناها الفينيقيون كانت شيء عظيم و عجيب ، لدرجة أنها أصبحت نقطة القوة في جيوشهم.
و لهذه الكتل الخشبية التي تعاند الغرق وسائل معقدة و طرق كثيرة لبناؤها ، يقول العلم أنها بدأت بحرق داخل جزع شجرة ليصبح هشاً سهل الإخلاء فيدخل فيه الإنسان ، و حتى البواخر و قياس عمق الغاطس و نوع المياة و تأثير الطفو .... إلخ .
و بغض النظر عن هذه المقدمة عديمة الفائدة تقريبا ، فقد جال بفكري موضوع السفن عندما رايت اليوم لوحة " حضانة فلك نوح " على أحد الباصات في الطريق ، و ربما كان سني هو عدم التفاتي لكلمة حضانة ، و لكني اهتممت جداً بالفلك .
عادة تبنى السفن بالقرب من المواني ، أو المسطحات المائية حتى يكون نقلها للبحر أو المحيط شيء سهل ، و لكن أن تبنى سفينة في الصحراء ، كأنك جهزت صنارتك للصيد ثم ذهبت للوادي الجديد ، و لكن نوح لم يبالي ، لم يستخدم فكره بل استخدم إرادة الله ، لمم يسأل و يناقش ... لماذا ؟ كيف ؟
و لأن عائلة نوح كانت عبارة عن 8 أفراد ، فبناء فلك بهذا الحجم ليس له معنى ، كأن يحجز شخصا ما كل مقاعد الطائرة حتى يشعر بالراحة ، و لن يستفيد شيئا ، و لكن نوح نفذ بالضبط المقاييس التي أملاها له الله ، و كان فلاحا و ليس مهندس بواخر ، دارسا للمثاليات في بناء الفلك .
في المرة الأولى التي شاهدت فيها ثعبان كنت أراه خلف الزجاج و كنت مرعوبا منه .. أفهم يارب أن نوح يأخذ معه الحمام و القطط و العصافير و الأفيال ، و لكن الثعابين و النمور و الفهود ، كمن ينام و في بيته ثعلب صغير أو نمس يأكل اللحم النيء .
كل هذا و نوح لا يبالي بأراء الناس و أفكارهم ، بل لا يبالي بفكره هو شخصيا ، لذلك عندما انتهى نوح من العمل و أدخل الحيوانات ، أغلق الله الباب ، و هنا لم يخف نوح من صوت الأعاصير ، و لا فحيح الأفاعي و لا زمجرة الأسود لأنه يعلم أنه داخل الفلك ، و الله في وسط هذا التجمع ، و من الذي يخاف في حضرة الله ؟!ربما لهذا من يصنع مشيئة الله لا يخاف أبدا لأنه واثق بمن آمن و مع من يسير ، لهذا صممت الكنائس على شكل فلك لتخبر الناس أن الله يحمي من يدخل بيته و يتمسك به ، و ربما لهذا سميت الحضانة بهذا الاسم حتى تطمئن على أطفالك و كأن الله نفسه سوف يحميهم وسط الطوفان .