التراجيديا

لقد بدأ الأمر في الساعات الأخيرة من العام الماضي عندما أطلقت لفكري العنان ليستعرض أحداث الأشهر الإثنى عشر التي مضت ، و مرت الأشهر إلى أن وصلنا لشهر نوفمبر و كان الحدث الأهم الذي انتهى به الشهر هو فقدان شخص كنت أحبه بشدة ... رحل في هدوء كعادته دائماً ، فتوقفت عن التفكير لثواني ثم استطردت ،فلم يتبق سوى شهر واحد، و في شهر ديسمبر كان الحدث الأهم – و الذي انتهى به الشهر أيضاً – هو حدوث زلازل قوية جداً أثرت على العديد من البشر ووصل عدد ضحايا "تسونامي" إلى عدة عشرات من الألف وسط ذهول العالم كله و عجزه عن عمل شيء لوقف هذه الظاهرة الطبيعية البحتة . و هنا اكتشفت أن آخر شهرين في العام قد رحلا بنهايتين كل منهما تستحق أن يطلق عليها لفظ مأساة ، حزن ، ألم .... تراجيديا .
و قد لصق الأخير في عقلي قليلاً وتذكرت ما كان يكتبه وليم شكسبير من مسرحيات تراجيدية ، و في الحقيقة إن معنى كلمة تراجيديا – حسب ما أفهمه أنا – هو حدوث مواقف حزينة و مأساوية أو مواجهة ظروف غاية في الصعوبة، أقصد بالصعوبة هنا ليس مثل اختبار صعب .. لا لا ، ولكنني أقصد الصعوبات التي تقع على النفس الإنسانية فتعتصرها بشدة .. مثل أن يفقد أحد الأشخاص كل أفراد عائلته و يصبح و حيداً فجأة دون أي مقدمات و بسرعة تكاد تتفوق على سرعة ملامسة رموش عينك لبعضهما و رجوعهما لمكانهما الأول ثانية .. أو أن تصبح فتاة في سن صغيرة لا تعرف العد حتى العاشرة دون أب أو أم .. أو – مثلما حكى لي أحد أصدقائي – أن ينام زوجان في الليلة الأولى لزواجهم و تستيقظ الزوجة وحدها دون الذي اعتقدت أنه سوف يكمل معها باقي حياتها ، تراجيديا .. تراجيديا .. تراجيديا .
و هنا ظللت أفكر في الحياة و مواقفها و مقاييس الحكم على التراجيديات و الكوميديات فوجدتها غريبة جداً عندما حاولت إيجاد رابط بينها و بين تعريف الحياة ... هل نعرف الحياة على أنها مجموعة من المواقف المفرحة و المضحكة ؟ أو هي تعريف آخر للنجاح ؟ و ما هو تعريف النجاح ؟ البعض يراه دراسي ، و البعض يراه روحي ، و آخر يراه عملي .. كل حسب ميوله . ثم فكرت قليلاً أليس الله هو ضابط الكل أم أننا نردد هذه الكلمة على سبيل المجاملة ؟ أليس هو الذي يأمر الشمس فتشرق و الأرض فتدور و باقي الأشياء التي تحدث بدقة شديدة لا تعقل ؟ إذن من الذي أمر الزلزال أن يكون بهذه القوة و في هذا المكان بالذات؟ و من الذي يأمر الأرواح فتعود إليه ؟ أقصد أنه حتى لو لم يكن ذلك من فكر الله فهو أكيد لم يحصل دون موافقته عليه ، فهل إذن يوافق الله على الشر؟ و هنا توقفت فجأة فقد انقلبت موازيني تماماً ... إذن عندما يسمح الله أن يرحل أحد عن هذه الدنيا أو تحصل كارثة أو ضيقة أو أي شيء مما يحزن كل البشر هو ليس كما ظننت تراجيديا ؟ ... أعتقد ذلك .
و لكن ألا يمكن تحويل الحزن إلى فرح ؟ كيف... عندما ينتقل أحد و يحزن عليه الكثيرين فمعنى ذلك أنه كان صالحاً و ذهب لمكان افضل فنفرح ، أو عندما تحدث كارثة ما ألا نشكر الله أنه اعتنى بنا و نفرح لأنه لم يسمح أن تصيبنا ... بل إن أحزن أوقات السنة يوم الجمعة العظيمة التي يسميها البعض الحزينة عندما نحزن جداً على موت المسيح لأجل خطايانا يكون ذلك ممزوجاً بالفرح لأنه لولا ذلك لما قدرنا أن نخلُص ، و حتى عندما نحزن على خطايانا ينبغي أن نفرح لأن الله أعطانا وقت للتوبة و الغفران و لم نمت و نحن في غفلة ... كل هذه الأحزان ممزوجة بالأفراح و الأفراح ترتبط بالشكر ... الآن فقط تذكرت أن أولى صلوات الجنائز هي صلاة الشكر إذن لماذا نحزن؟ لأننا بشر ، ضعفاء ، نعيش في العالم و نتأثر به .
يبدو لي الآن واضحاً لماذا لا يحزن الرهبان (على الأقل بنفس الدرجة ) عندما يحصل ما نسميه تراجيديا لأنهم ملائكة أرضيون ، يستمدون قوتهم من المسيح ، يخرجون من العالم ساخرين منه ... .
بل لقد بدا لي الآن واضحاً أن التراجيديا ( حسب مفهومنا ) هي إحدى وسائل الفرح و ليس الحزن !!! .
يناير 2005